حضرت قبل فترة مؤتمراً في إحدى العواصم العربية بمشاركة حشد من الإعلاميين ورجال الأعمال والنشطاء بالإضافة إلى مجموعة مزركشة من السياسيين اللبنانيين. وقد كان المدعوّن اللبنانيون نجوم المؤتمر بامتياز، لكن ليس بسبب إسهاماتهم العظيمة في فعالياته، بل بسبب مظاهر «البهورة» و«الفانطزية» و«الزعبرة» والتعالي المضحك التي أحاطوا أنفسهم بها في فناء الفندق الذي نزلوا فيه، وكأنهم في مهرجان كان السينمائي. لقد كان بقية المدعويين يتصرفون بعفوية، يتناقشون فيما بينهم في أي مكان يلتقون دون تكلف، يذهبون إلى المقهى لتناول المشروبات ويلتفون حول مائدة واحدة لتناول الغداء، يتبادلون النكات، يتمشون في ردهات الفندق دون هرج أو مرج، يسرحون ويمرحون بأريحية جميلة. أما الساسة اللبنانيون فقد كانوا يتصرفون بطريقة مسرحية كالأباطرة أو على أقل تقدير على طريقة الملوك والزعماء، فلا تمر ساعة إلا ونرى موكباً "مهيباً" مؤلفاً من حشد من الأشخاص يمر مسرعاً في هذه الزاوية أو تلك وفي الوسط شخصية لا نكاد نرى ملامحها لكثرة المحيطين بها من خدم وحشم وحراس ومرافقين، فيلتفت المارة ليعرفوا من يكون هذا، فإذا به رئيس لبناني سابق مضى على خروجه من السلطة أكثر من عشرين عاماً وبالكاد يتذكره أحد، أو زعيم حزب لا يشكل عدد أعضائه مائة رجل، أو قائد فصيل لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، أو ممثل فخذ طائفية يمكن استضافة أتباعه كلهم في جناحين من أجنحة الفندق.
لقد أصبت بدهشة كبيرة وأنا أرى تلك المشاهد التي يحتار المرء في وصفها. هل هي نوع من الكوميديا السوداء؟ أم تجسيد صارخ للبداوة السياسية في أنصع صورها في بلد يتظاهر بالتحضر؟ لقد تذكرت وأنا أرى ذلك الحشد المهول من «الزعماء» اللبنانيين في المؤتمر نكتة الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي التي قالها للرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعيد الوحدة بين البلدين. فقد ربت القوتلي على كتف عبد الناصر وقال له: «لا أحسدك على هذه الوقعة، فقد توليت أمور شعب كله زعماء». وفي رواية أخرى «كله سياسيون، كان الله في عونك!» لكن بينما تخلصت سوريا من بداوتها السياسية وانصهرت في دولة وطنية حديثة بقي لبنان متمسكاً بتقاليده الإقطاعية والمشيخية البائدة.
مسكين ذلك البلد الذي يتكاثر فيه «الق ادة» والبكاوات كما تتكاثر الفئران والأرانب، خاصة إذا ما علمنا أن للعالم كله رباً واحداً! وليس صحيحاً أبداً أن ذلك ضرب من التعددية الديمقراطية. إنها العشائرية والقبلية السياسية المقيتة التي لم تعد موجودة إلا في مجاهل أفريقيا، والديمقراطية منها براء، حتى إنها انتهت في البلدان العربية القائمة على التوازنات القبلية. لقد استطاعت كل البلدان الخليجية مثلاً أن توحد عشائرها وقبائلها في بوتقة وطنية واحدة لتصبح دولاً حديثة ثمثلها حكومات وأنظمة متجانسة. وغدا هناك كيانات وطنية متحدة ومنصهرة بالرغم من التنوع السياسي والمناطقي والقبلي والعشائري والتناقضات السياسية، أي على عكس الوضع اللبناني الذي مازال يعيش في زمن ما قبل الدولة الوطنية.
لقد أراد شمعون بيريس عندما دخلت القوات الإسرائيلية إلى قلب بيروت في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم تفتيت الطائفة الواحدة إلى طوائف. ويبدو أنه كان له ما أراد. فلو كان الصراع اللبناني دائماً بين الطوائف لهان الأمر، لكنه تحول إلى تناحر وتشظي داخل الطائفة الواحدة، فالمسيحيون مثلاً تشظوا إلى أفخاذ، وكذلك الدروز والشيعة والسنة، حتى بتنا نرى زعيماً لكل فخذ يتصارع مع زعيم فخذ أخرى من نفس الطائفة. فلا تغرنك البزات وربطات العنق والجينزات الغربية وقصات الشعر الحديثة التي يظهر بها قادة الأفخاذ الطائفية اللبنانيون، فهي مظاهر خداعة بامتياز، ولا تنم عن تطور حضاري بأي حال من الأحوال من الناحية السياسية، بل هي تحجب وراءها نزوعاًً صارخاً للبدائية السياسية والتقوقع العشائري والتحزب الطائفي والتشظي الاجتماعي والمافياوية البغيضة، هذا في الوقت الذي تخلص فيه لابسو العباءات من عصبياتهم العشائرية والقبلية واستطاعو بناء دول حديثة متماسكة ومتناغمة. ما الفائدة أن أظهر بمظهر حديث وأرتدي أحدث الأزياء الغربية بينما أفكر بعقلية داحس والغبراء من الناحية السياسية، واتمسك بالزعامة حتى لو كانت زعامة شرذمة أو حارة، وأعين سفراء وممثلين لي في الخارج كما لوكنت دولة داخل دولة؟ ومن المضحك أن هناك ممثلاً لكل حزب أو فصيل لبناني في الكثير من الدول. وهو سمت بدأت تقلده الفصائل العراقية بعد أن نجحت أمريكا في لبننة العراق.
ومما يثير السخرية أكثر فأكثر أن بعض «الأحزاب» اللبنانية التي ترفع شعارات تقدمية واشتراكية هي أحزاب موغلة في الوراثة السياسية والزعاماتية والمشيخية والعائلية القر وسطية. ويروي أحد الرؤساء اللبنانيين أنه زار ذات يوم زعيم أحد الطوائف فرفضت والدته أن تقف لمصافحة الرئيس، فسألها الرئيس: «ألا يستحق رئيس الدولة أن تقفي للسلام عليه»، فأجابته: «بالطبع لا، فأنت مجرد رئيس، والرؤساء عندنا يأتون ويذهبون، أما البكاوات «جمع بيك» فهم بكاوات إلى الأبد». ولا أدري أين التقدمية إذا كان الوزير في بعض الأحزاب المملوكة لهذا البيك أو ذاك مجبراً على تقديم الشاي والقهوة إذا طلب منه البيك ذلك، كما يتندر اللبنانيون.
في الغرب هناك ألوف الجمعيات والهيئات والاتحادات، لكنها عندما تحضر مؤتمراً لا تأتي فرادى، بل تحت علم الدولة التابعة لها، ففي مؤتمر ديربان في جنوب أفريقيا حضرت كل جمعيات المجتمع المدني الأمريكية تحت اللواء الأمريكي، ولم نر جمعيات تكساس تنفصل عن جمعيات كاليفورنيا في المؤتمر رغم الاستقلالية الكبيرة لكل ولاية حسب النظام الفيدرالي. ولم نر رئيس ذلك الاتحاد يجمع حوله المرافقين ويتبختر كالطاووس في ردهات الفندق الذي نزل فيه. زد على ذلك أن عدد الأحزاب في الدول الغربية محدود جداً بالرغم من التعددية الحزبية الحقيقية، ففي أمريكا هناك الحزبان الجمهوري والديمقراطي، وفي ب ريطانيا العمال والمحافظون وهلم جرّ. وقد حضرت مؤتمرات كثيرة شارك فيها ممثلون عن الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي، وكنا بالكاد نعرف أنهم يمثلون حزبين مختلفين، لأنهم لم يظهروا في بهو الفندق بتلك الصورة الطاووسية الجاهلية التي يظهر فيها ممثلو الأحزاب والطوائف والفصائل والشراذم اللبنانية، مع العلم أن في أمريكا من الطوائف والأقليات والتجمعات والاتحادات ما لا يُعد ولا يُحصى. لقد انضووا جميعاً تحت الراية الأمريكية، وتحدثوا خلال المناقشات كأمريكيين وليس كزعماء عصابات طائفية أو جهوية. ولا داعي للتذكير بأن الرؤساء الغربيين القدامى يحضرون المؤتمرات الدولية دون أي أبهة أو «هيصة» تـُذكر ، فبالكاد يرافقهم شخص أو شخصان، وفي أحيان كثيرة لا يرافقهم أحد، ولا يثيرون حول أنفسهم أي ضجة أو «زعبرة».
لكم تفاخر اللبنانيون بأنهم استطاعوا التغلب على عصبياتهم الطائفية ونزعاتهم «البكاواتية» من خلال النظام العلماني الذي صهر الأديان والعقائد والأعراق في بوتقة واحدة. لكن ذلك لم يتحقق إلا على الورق،
فما زال لبنان بلد الطواويس الزعاماتية والمشيخات والطوائف والعقائد المتناحرة والمتكاثرة، على عكس الهند مثلاً التي استطاعت فعلاً أن تتخلص من تناقضاتها الطائفية والعرقية الخطيرة ومهراجاتها بالنظام العلماني الحقيقي الذي صهر الجميع في إطار واحد ووضع البلاد على طريق التنافس العالمي في الكثير من المجالات، هذا بالرغم من أن أصغر ولاية هندية فيها من الطوائف واللغات والعقائد والعرقيات أكثر مما في لبنان من سكان وسنديان. لكن مع ذلك فإن عدد الزعماء والقادة اللبنانيين «ما شاء الله» يفوق عدد أعضاء البرلمان الهندي ومهراجات بلاد الهند والسند مجتمعين.
كم كان غوار الطوشي محقاً عندما قال في إحدى مسرحياته: «كلهم زعماء، من أين آتي لهم بالشعب؟!»
د. فيصل القاسم : ( كلنا شركاء ) 7/5/2006
0 أض٠تعÙÙÙÙ
Post a Comment
Home